جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. logo       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
shape
الرد على ابن حزم
9439 مشاهدة print word pdf
line-top
حجية القياس

والحاصل أن إلحاق المسكوت عنه بمنطوق أمر لا شك فيه، وأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، والله -جل وعلا- قد بين نظائر في القرآن كثيرة يعلم بها إلحاق النظير بالنظير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة.
فمن ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سأل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن القبلة للصائم، فقال له: أرأيت لو تمضمضت؟ فهذا إشارة من النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى قياس المضمضة على القبلة، بجامع أن القبلة مقدمة الجماع، وأن المضمضة مقدمة الشرب فكل منهما مقدمة إفطار، وليست بإفطار، ومحل كون القبلة كالمضمضة إذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء، أما إذا كانت القبلة تخرج منه شيئا فهو كالذي إذا تمضمض ابتلع شيئا من الماء فحكمه حكمه.
وكذلك ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث متعددة في ذلك في الصحيحين أنه سأله رجل مرة، وامرأة مرة عن دين يقضيانه على ميت لهما، مرة تقول: أبي، ومرة تقول: أمي، وكذلك الرجل، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفع؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى .
هو تنبيه منه -صلى الله عليه وسلم- على قياس دين الله على دين الآدمي بجامع أن الكل حق يطالب به الإنسان، وأنه يقضى عنه بتغريم مستحقه.
وأمثال هذا كثيرة، ومن أصرحها ما ثبت في الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- جاءه ... من سواد الغلام، وظن أنها زنت برجل أسود، وجاءت منه بهذا الولد فجاء للنبي-صلى الله عليه وسلم- منزعجا، وأخبره أنها جاءت بولد أسود، وكان يريد أن يلاعنها، وينفي عنه الولد باللعان، زعما أن هذا الولد من ثان أسود، وأنه ليس ولده؛ لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر الألوان. قال: هل فيها من أورق؟ والأورق المتصف بلون الورقة، والورقة لون كلون حمام الحرم يعني سواد يعلوه بياض يكون في الإبل.
قال الرجل: إن فيها لورقة، قال: ومن أين جاءتها تلك الورقة؟ آباؤها حمر، وأمهاتها حمر فمن أين جاءتها الورقة؟ قال: لعل عرقا نزعها، قال له: وهذا الولد لعل عرقا نزعه فاقتنع الأعرابي وهذا إلحاق نظير بنظير. وبالجملة فنظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، وهذا مما لا يشك فيه، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأمثلة التي ذكرنا، ومنه قياس فاسد.
والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة، وبعض الأقيسة الصحيحة، فمن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ لما اليهود قالوا: إن عيسى لا يمكن أن تلده مريم إلا من رجل زنى بها، وقالوا لها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا .
وهذا الولد لا بد أن يكون له والد، وهذا الوالد رجل فجرت معه، وزنيت به، فالله -جل وعلا- قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم خلق ولم يكن له أم ولا أب، فالذي خلق آدم ولم يكن له أب ولا أم فهو قادر على أن يخلق عيسى من أم، ولم يكن له أب كما خلق حواء من ضلع رجل.
فالله -جل وعلا- جعل خلق الإنسان قسمة رباعية بعض خلقه لا من ذكر ولا أنثى، وهو آدم وبعض خلقه من أنثى ولا ذكر، وهو عيسى ابن مريم وبعض خلقه من ذكر دون أنثى، وهي حواء ؛ لأن الله يقول: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا .
والقسم الرابع خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى على آدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته، وأمثال هذا كثيرة، فجاء به.
وكذلك قاس الموجودين في زمان النبي على الأمم الماضية، وقال لهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثم بين إلحاق النظير بالنظير فقال: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا .
كأن الموجودين في زمن النبي فرع والكفار المتقدمون أصل، والحكم الذي عمهم المهدد به العذاب والهلاك، والعلة الجامعة تكذيب الرسل والتمرد على رب العالمين، وأمثال هذا في القرآن كثيرة.

وكذلك ما يسمونه قياس العلة، وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل علة يكثر في القرآن جدا كقوله جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى فقاس إحياء الموتى الذي ينكره منكرو البعث على إحياء أرض مشاهد؛ لأن كلا منهما إحياء، وهذا الإحياء للموجود يدل على قدرة قادر كاملة باهرة، يقدر بها من اتصف بها على إحياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها.
وكما استدل -جل وعلا- بقياس الأولى على الأدنى، واستدل بأن من خلق السماوات والأرض لا يعجز عن خلق الإنسان الصغير الحقير بعد الموت، كما قال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا الآية، وقال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر.
وقال جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى والإيجاد الأول فلما قستم عليه النشأة الأخرى والإيجاد الأخير، وعلمتم أن من قدر على الأول قادر على الثاني، كما قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وأمثال هذا كثيرة جدا.
أما القياس الفاسد الذي بني مخالفا للنصوص كقياس إبليس-لعنه الله- وكالأقيسة المخالفة للنصوص، وكأقيسة الشبه المبنية على الفساد فإن الكفار جاءوا بقياس الشبه كثيرا باطلا، ومثله باطل.
كما قالوا في يوسف عليه على نبينا الصلاة والسلام: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فأثبتوا السرقة على أخ يوسف لأن يوسف قد سرق قبلهم، قالوا: الأخ يشابه الأخ فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال، وأن هذا سرق كما سرق ذلك، وهذا قياس شبه باطل، وهذا النوع من القياس كقياسات إبليس الباطلة.
والكفار -لعنهم الله- كذبوا جميع الرسل بقياسات شبه باطلة، لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له: أنت بشر، وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر، ولا نقبل أن تكون رسولا من رب العالمين، وأنت تأكل كما نأكل، وتشرب مما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي فيها، ونص الله على أن هذا منع كل أمـة قال: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه، واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر.
والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- ردوا عليهم هذا القياس، ورده الله عليهم في آيات، لما قالوا للرسل: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا أجابهم الرسل قالوا: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم تفاوتنا في فضل الله، كما قال جل وعلا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ .
وقالوا فيه: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وهذا كثير في القرآن، وهذه الأقيسة الفاسدة.
والحاصل أن القياس منه صحيح ومنه فاسد، فالصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة، والتابعون، وأئمة المسلمين، وأحكام الصحابة في القياس لا يكاد أحد يحصيها؛ فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أن المجتهدين يختلفون في اجتهادهم، وكلهم لا إثم عليه ولا ضرر عليه؛ لأنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة .
هذا نص صحيح صريح سمعه الصحابة بآذانهم من رسول الله، ثم راحوا من المدينة إلى ديار بني قريظة.
وأدركتهم صلاة العصر في الطريق فاختلفوا في فهم هذا الحديث، وكل اجتهد بحسب ما أدى إليه فهمه، فجماعة قالوا: ليس مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نؤخر صلاة العصر عن وقتها، ولكن مراده الإسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا العصر وأسرعوا.
وجماعة قالوا: العصر وجبت علينا على لسانه -صلى الله عليه وسلم- فلو قال لنا: اتركوها إلى يوم القيامة تركناها إلى يوم القيامة، ولو قال: اتركوها إلى قريظة تركناها إلى قريظة، وجاءوا النبي ولم يصلوا، واجتمعوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم في خلاف بين مشرق ومغرب لأن من صلى ومن لم يصل مختلفان. فهو- صلى الله عليه وسلم- قررهم جميعا، ولم يخطئ أحدا منهم.
ولو كان واحد منهم فعل غير صواب وأمرا حراما لما أقره الرسول عليه-صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يقر على باطل، ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وثبت في صحيح البخاري عن الحسن البصري -رحمه الله- ما مضمونه ومعناه أنه كان يقول: لولا آية من كتاب الله أشفقت على المجتهدين، وهي قوله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الآية؛ لأن الله جل وعلا صرح بأنهما حكما حيث قال: إِذْ يَحْكُمَانِ بألف الاثنين الواقعة على داود و سليمان .
ثم قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ولم يقل شيئا عن داود فعلم أن داود لم يفهمها؛ لأنها لو فهمها الأب لما اقتصر على الابن، ولما كان للاقتصار على سليمان فائدة مع أنهما فهماها، ولو كان هذا وحيا من الله لما فهمه أحدهما دون الآخر؛ لأن الوحي أمر لازم للجميع، فدل على أنهما اجتهدا، وأن داود لم يصب في اجتهـاده، وأن سليمـان أصاب في اجتهاده، فالله أثنى على كل منهما، ولم يعنف داود بل قال بعـده: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .
وقد ثبت في الصحيحين ما يستأنس به لهذا لأنه قد ثبت في الصحيحين أن داود -عليه السلام- في زمنه جاءته امرأتان نفستا، وجاء الذئب فاختطف ابن واحدة منهما، وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى، وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى: هذا ولدي، وتنازعتاه، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى اجتهادا منه لأمارات ظهرت له، أو لشيء في .. يقتضي ظاهره ذلك بالاجتهاد، فرجعتا إلى سليمان فلما رجعتا إلى سليمان قال: كل واحدة منكما تدعيه، هاتوا بالسكين أشقه بينهما نصفين، فأعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه، كان أبو هريرة يقول: ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم ما كنا نقول لها إلا المدية، فلما قال: إنه يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى، وأدركتها رأفة على الولد فقالت له: لا، يرحمك الله، هو ابنها، وأنا لا حق لي فيه، وكانت الكبرى راضية بأن يشق لتساويها أختها في المصيبة، فعلم سليمان أن الولد للصغرى فقضى به للصغرى.
وذكر ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هذه القصة عن داود و سليمان إلا أنه في تاريخ ابن عساكر والله أعلم بصحة القصة وعدم صحتها، إلا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة .
والقصة التي ذكرها ابن عساكر في تاريخه أنه كان أربعة من أشراف بني إسرائيل راود امرأة جميلة من بني إسرائيل عن نفسها، وكانت بارعة الجمال فمنعتهما، وحاولا أن يصلا إليها فامتنعت، فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها.
فزعوا وشهدوا عند داود أن عندها كلبا علمته الزنا، وأنها تزني بكلبها، وكان مثل هذا عند داود يقتضي حكم الرجم فدعا داود بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بكلبها فرجمها داود قالوا: وكان سليمان إذ ذاك صغيرا فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شرطا، قال: فلان وفلان جعلهم كالشرطيين، وأخذ قوما وجعلهم شهودا، وجاءوا يشهدون.
وجعل رجلا كأنه المرأة، وقالوا: نشهد أن هذه زنت بكلبها، ثم قال سليمان للصبيان الذين جعلهم كالشرط: خذوا كل واحد منهم، وفرقوهم وأتوني بهم واحدا واحدا، فجاءوه بالأول فقال: ما تقول في شهادتك؟ قال أقول: إنها زنت بكلبها، قال له: وما لون الكلب؟ قال: كان كلبها أحمر.
ثم دعا بالثاني فقال له: وما لون الكلب؟ قال: كان كلبها أسود، ثم دعا بالآخر فقال: أغبر، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب فعلم أنهم كذبة، فقال: اقتلوهم لأنهم قتلوها، فسمع داود الخبر فأرسل بالشهود حالا، وفرقهم وجاءوه واحدا واحدا فسألهم، فاختلفوا في لون الكلب فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة فقتلهم قصاصا.
هكذا قال، والله أعلم.
وعلى كل حال فالقياس هو قسمان: قياس صحيح، وقياس فاسد.
فما جاء به الظاهرية .. من قياس و.. هو ينطبق على القياس الفاسد، والصحابة كانوا في غنى على القياس الصحيح.
وقد جاء عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاث نفر يختصمون في غلام كلهم يقول: هو ابني، فقال: اقترعوا على الغلام. فوقعت القرعة لواحد منهم فقال للذي جاء الغلام في نصيبه- قال له: خذ الغلام، وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية ثلث دية الغلام. قالوا: فلما بلغ قضاؤه النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك من قضاء علي هذا حتى بدت نواجذه.
ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له: بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الحديث يقول ابن حزم إنه باطل، لا أصل له؛ لأنه رواه الحارث بن عمرو.. عن ناس من حمص مجهولين فهو رواية مجهول عن مجاهيل وأن الاستدلال به ضلال.
وقد قال ابن كثير في مقدمة تفسيره: إنه رواه أصحاب السنن بإسناد جيد.
وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل .
وهذا الإسناد منهما صحيح لا شك في صحته؛ لأن رجاله معروفون، إلا أن البلية مما قبل عبادة بن نُسي والظاهر أنه رواه عن عبادة بن نسي هو محمد بن حسان المصلوب الذي صلبه أبو جعفر المنصور في الزندقة، وهو كذاب لا يحتج به.
فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له إلا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو عن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص .
والذين قالوا: إن الحديث صحيح، وأنه يجوز العمل به استدلوا بأمرين: أحدهما: أن الحارث بن عمرو المذكور وثقه ابن حبان وإن كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد قوية يعتضد بها كحديث الصحيحين: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران .
قالوا: وليس في أصحاب معاذ بن جبل ليس فيهم مجروح بل كلهم عدول.
وإذا كان الحارث موثقا، وأصحاب معاذ كلهم عدول فالحديث مقبول.
وكذلك قالوا: إن علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث خلفا عن سلف، وتلقي العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الإسناد.
وكم من حديث اكتفى بصحته عن الإسناد، واكتفى بعمل العلماء به في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلا، واكتفى بذلك عن الإسناد.
وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المذموم، والقياس الصحيح هو إلحاق النظير بالنظير على الوجه الصحيح لا شك في صحته، وأن الصحابة كذلك كانوا يفعلون، يلحقون المسكوت عنه بالمنطوق به، وهذا كثير، وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة.
ونرجو الله -جل وعلا- أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يختم لنا بالسعادة. اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واختم بالعافية غدونا وآصالنا. واجعل الجنة مصيرنا ومآلنا، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر، وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنـا في سبيلك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وأن نعمل صالحا ترضاه...

line-bottom